حين تهجم سحب الأحزان وتتكاتف قيود الهموم، فلا تجد مخرجا ً وتضيق عليك نفسك، وكأن روحك تتصاعد من حلقك، وتكاد الظروف تخنقك، فتخرج أنفاسك بصعوبة وتضيق الدنيا وينسحب الناس من حولك، وتصير وحيدا ً لا مؤنس ولا مهوّن فتتيقن الموت..

هنا.. يفتح لك الرب طاقة الفرج، ونسمة الأمل ويبث فيك الطمأنينة ويمد لك يد العون، ويحييك بعد ما رأيت الموت، فتخر له ساجدا ً وباكيا ً ولسانك يردد: يا حي يا قيوم ! لك الشكر كله.

وما حصل هذا إلا بعد توكلك على الحي الذي لا يموت: ( وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱلۡحَیِّ ٱلَّذِی لَا یَمُوتُ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِهِۦۚ وَكَفَىٰ بِهِۦ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِیرًا ) الفرقان: 58 .

فربنا جل جلاله أثبت صفة الحياة لنفسه، وهي حياة كاملة لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زول ولا فناء على الدوام، ولا يعتريها نقص ولا عيب، ولا غفلة ولا عجز، ولا تأخذه سنة ولا نوم، ولا موت بأي حال من الأحوال: ( لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَة وَلَا نَوۡمۚ ) البقرة: 255 جل ربنا وتقدس عن ذلك.

وحياته عز وجل منزه عن مشابهة حياة الخلق: ( لَیۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَیۡءۖ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ ) الشورى: 11 ، حياة تستلزم كمال صفاته عز وجل من علمه وسمعه وبصره وقدرته وإرادته ورحمته ما يشاء، إلى غير ذلك من صففات كماله.

وربنا الحي سبحانه وتعالى: الذي قامت به الحياة، الذي به حي كل حي، فكل ما سواه حياته قائمة على إحياء الله عز وجل له: قال عز وجل: ( كُنتُمۡ أَمۡوَ ٰتا فَأَحۡیَـٰكُمۡۖ ثُمَّ یُمِیتُكُمۡ ثُمَّ یُحۡیِیكُمۡ ثُمَّ إِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ ) البقرة: 28 .

وربنا جل جلاله الذي يحيي النفوس والأرواح بنور العلم والهدى والإيمان.

وربنا جل جلاله الذي يهب أهل الجنة الحياة الدائمة الباقية، قال تعالى: ( وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَ لَهِیَ ٱلۡحَیَوَانُۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ  ) العنكبوت: 64 . 

الدليل الواضح : 

الحي لا إله لا هو من توكل عليه كفاه، لا يقهر إرادته شيء، ولا يعجزه شيء، يكشف السوء ويجيب المضطر، يحيي العظام وهي رميم، يعيد الخلق كما بدأهم أول مرة وهو أهون عليه، وهو الحكيم الذي لا يخلق شيئا ً عبثا ً ولا يترك شيئا ً سدى .

أخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء العاص بن وائل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقام وأخذ عظما ً رميما ً ففتته بيده، وقال: من يحييى العظام وهي رميم ؟ (مكذبا ً البعث والنشور) ، قال: ” يبعث الله هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم.

وأنزل الله تعالى ( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) ) يس: 77 – 79 إلى آخر السورة. حديث صحيح، رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

ما أكفر الإنسان ! نسى خلقه وأنكر خالقه فالذي خلقه أول مرة يعيده ويحييه، لأن الخلق الثاني أهون من حيث العقل، وكله هين على الله، فإن البدء والإعادة عند الله سواء: ( وَهُوَ ٱلَّذِی یَبۡدَؤُا۟ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُۥ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَیۡهِۚ ) الروم: 27 .

نداء الكون ..

فسبحان من جعل لكل مخلوق حياة تخصه ! فحياة الملائكة غير حياة الإنسان ، وحياة الجن غير حياة الإنس، وحياة الحيوانات تختلف عن حياة الإنس والجن والملائكة.

وحتى الجمادات فاضت عليها آثار اسم الله الحي، فكانت حية، فإن الجمادات فاض عليها ما يناسبها من الحياة، فهذه عصا موسى عليه السلام: ( فَأَلۡقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِیَ تَلۡقَفُ مَا یَأۡفِكُونَ ) الشعراء: 45 .

وحتى الأشجار لها حياة خاصة، فالجذع حن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع، فملا اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع، فأتاه فمسح يده عليه.

وفي السنن: فأتاه فاحتضنه، فسكن، فقال صلى الله عليه وسلم: ” لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة ” حديث صحيح، رواه ابن ماجة .

فظهور هذه الحياة في المادة الصماء أليست آية من آيات الله عز وجل، تدل على أنه الحي لا إله إلا هو ؟!

وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد

قلوب المحبين ..

وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ” اللهم اني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت، أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون ” رواه مسلم.

لا شك أن الهداية هي حياة القلوب، وهو من الحي لا إله إلا هو، فمن أرادها فليرجها ويسألها من الحي، لأن الله عز وجل قال: ( هُوَ ٱلۡحَیُّ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ فَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَۗ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ ) غافر: 65 .

والقلب اذا امتلأ بالإيمان وبجلال الله هنا تحلو الحياة، وتعذب الدنيا وتستنير البصيرة، وتنكشف الهموم، وتهاجر الغموم، ويسعد بالوجود.

فأسماء الله جل جلاله تثير حبا ً ورغبة في قلوب المؤمنين فهم سعداء في الدنيا، وسعداء في الآخرة، ( مَنۡ عَمِلَ صَـٰلِحا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِن فَلَنُحۡیِیَنَّهُۥ حَیَوٰة طَیِّبَةۖ وَلَنَجۡزِیَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ ) النحل: 97 .

ومن كفر ضاق  عيشه، ونغصت معيشته في الدنيا والآخرة، لأن الله جل جلاله قال: ( وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِی فَإِنَّ لَهُۥ مَعِیشَة ضَنكا وَنَحۡشُرُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ أَعۡمَىٰ ) طه: 124 ، وإن كان يسير على قدمه فهو في عداد الموتى: ( أَمۡوَ ٰتٌ غَیۡرُ أَحۡیَاۤءۖ وَمَا یَشۡعُرُونَ أَیَّانَ یُبۡعَثُونَ ) النحل: 21 .

ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء

انكسر له ..!

في مسند الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال: ” يا حي .. يا قيوم ! برحمتك أستغيث ” حديث حسن.

وروى النسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة رضي الله عنها: ” ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به ! أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيتِ: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ” حديث صحيح.

وعند الترمذي والحاكم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ، غفر له وإن كان فر من الزحف ” حديث صحيح.

وجاء في السنن من حديث أنس رضي الله عنه: أن رجلا ً دعا، فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، الذي لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي .. يا قيوم ! 

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” دعاء الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل بع أعطى ” حديث صحيح.

قال ابن القيم رحمه الله: فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال، مستلزمة لها، وصفه (القيومية) متضمنة لجميع صفات الأفعال ولهذا كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي بها أجاب، وإذا سئل به أعطى، هو اسم الله: الحي القيوم .

اللهم ! إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون.

اللهم يا حي .. يا قيوم ! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله .

 

ساهم في التعريف بأسماء الله الحسنى

انت المشاهد رقم