لما سمع المذنبون: ( فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن یَعۡفُوَ عَنۡهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوًّا غَفُورا ) النساء: 99، رفعوا أكف الضراعة، ونثروا شكواهم بين يديه وأناخوا مطاياهم ببابه، ولاذوا بجنابه، وكثر استغفارهم ونادوا: يا عفو يا غفور! ليس لنا سواك.

فنظر الكريم العفو إلى حالهم، واطلع على اسرارهم فحط عنهم الخطايا، ومحا عنهم السيئات ورفع لهم الدرجات.

فسبحان العفو وسبحان من اختارهم لعفوه، واصطفاهم لمغفرته!

فإذا نزلت بك النوازل، وألمت بك الخطوب، أو اثقلتك الذنوب، فاهتف باسمه واطلب عفوه.

يا رب ان عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم

أدعوك رب كما أمرت تضرعا ً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم

قال الله سبحانه وتعالى: ( إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُور ) الحج: 60.

ربنا جل جلاله كثير الصفح عن ذنوب عباده إلى ما لا نهاية له، فهو عز وجل يتجاوز عن الذنوب ويزيل آثارها عنهم بالكلية، فلا يطالب بها العباد يوم القيامة ويمحوها من ديوان الكرام الكاتبين، بل وينسيها من قلوبهم كي لا يخجلوا عند تذكرها، ويثبت مكان كل سيئة حسنة.

وربنا سبحانه وتعالى هو الذي كان ولا يزال بالعفو معروفا ً وبالغفران والصفح عن عباده موصوفا ً، كل أحد مضطر إلى عفوه ورحمته وكرمه وقد وعد بالمغفرة والعفو من أتى بأسبابهما.

وهو سبحانه وتعالى يقبل العفو وهو السهل، وذلك بتيسير الواجبات على عباده لما يقع من العبد من تقصير وضعف، فالله أوجب الوضوء لمن أراد الصلاة إذا انتقض وضوؤه، ولكنه عفا عمن لا يجد الماء بأن يتيمم، مراعاة لضعف عباده.

قيل: العفو أبلغ من المغفرة، لأن الغفران يشعر بالستر، والعفو يشعر بالمحو والمحو أبلغ من الستر.

وعفوه نوعان :

عفوه العام: ويكون عن جميع المجرمين من الكفار وغيرهم بدفع العقوبات المنعقدة بأسبابها والمقتضية لقطع النعم عنهم، فهم يؤذونه بالسب والشرك، وهو يعافيهم ويرزقهم ويبسط لهم الدنيا ويمهلهم ولا يهملهم بعفوه وحلمه، فخير الله الى العباد نازل، وشرهم إليه صاعد، الله غني عن عبادة العباد، وهو يتودد إليهم بنعمه، وهم يتبغضون إليه بالمعاصي وهو الفقراء إليه.

وعفوه الخاص وهو: مغفرته للتائبين والمستغفرين والداعين والعابدين والمصابين بالمصائب، والمحتسبين من المؤمنين.

إنه العفو ..

ومن جلال عفوه عز وجل: انه من عفا الله عنه في الدنيا فالله اكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة، فهو كريم لا يرجع في عفوه، فهذه سنة الله تعالى مع أوليائه.

ومن جلاله انه كما يعفو في الدنيا عن المذنبين التائبين فإنه في الاخرة يعفو عن الموحدين المصرين.

ومن جلاله عز وجل انه يعفو عن ذنب عبده مهما كان جرمه، حتى عن حقه سبحانه ويبدل سيئاته حسنات، فمن الذي يكافئ الذنب بمثل هذا غير الرب سبحانه وتعالى؟ وانه لولا جلال عفوه لغارت الارض بأهلها لكثرة ما يرتكب من المعاصي على ظهرها.

ومن جلال عفوه عز وجل انه دل عباده على الأسباب التي ينال بها عفوه الكريم من الاعمال والاخلاق والاقوال والافعال، فإن العبد إذا اكثر من الاعمال الصالحة غلبت على كثير من ذنوبه وخطاياه.

عُد إليه !

العفو سبحانه وتعالى يناديك من فوق سبع سماوات بقوله: ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِیۤ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ ) غافر: 60، فما الذي يبطئك عن كرمه ؟ وما الذي يجعلك تتأخر عن الانضمام لركب الأوابين والتوابين ؟

إذا طرق الناس ابواب ملوك الدنيا، ووقفوا أذلاء بساحتهم، فقف انت متذللا ً بساحة ملك الملوك الإله الأكرم العفو، الذي بيده مفاتيح الفرج وبيده السعادة، بيده العفو والمغفرة .

( أَلَمۡ یَعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ یَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ ) التوبة: 104، قال بلال بن سعد: ان لكم ربا ً ليس الى عقاب احدكم بسريع، يقيل العثرة ويقبل التوبة، ويقبل على المقبل، ويعطف على المدبر.

وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ” اللهم انك عفو تحب العفو فاعف عني ” حديث صحيح، رواه ابن ماجة.

قال ابن القيم رحمه الله: فإن عفا عنك أتتك حوائجك من دون مسألة.

وقال سفيان الثوري رحمه الله: ما أحب أن يجعل حسابي إلى أبي وأمي، لأني أعلم ان الله سبحانه وتعالى ارحم بي منهما.

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي نحو عفوك سلما ً

تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي صار عفوك أعظما 

وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما ً

مفتاح العفو: 

قال العلماء: ان احب الخلق الى الله سبحانه وتعالى من اتصف بمقتضيات اسمائه وصفاته، فهو عز وجل رحيم يحب الرحماء، عفو يحب العافين عن الناس، فالله سبحانه وتعالى يكون لعبده على حسب ما يكون العبد لخلقه، فالله تعالى قال: ( فَبِمَا رَحۡمَة مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِیظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّوا۟ مِنۡ حَوۡلِكَۖ ) آل عمران: 159.

وحبل العفو مع المقدرة من أقرب منازل التقوى بل من كرمه وجوده، انه يقابل عفو العباد بعفو اكبر، قال سبحانه وتعالى: ( إِن تُبۡدُوا۟ خَیۡرًا أَوۡ تُخۡفُوهُ أَوۡ تَعۡفُوا۟ عَن سُوۤء فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّا قَدِیرًا ) النساء: 149.

وفي حادثة أبي بكرة الصديق رضي الله عنه عندما حلف ألا ينفق على مسطح أحد أقاربه بعد أن قذف عرض زوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها، في حادثة الافك المعروفة، قال عز وجل: ( وَلَا یَأۡتَلِ أُو۟لُوا۟ ٱلۡفَضۡلِ مِنكُمۡ وَٱلسَّعَةِ أَن یُؤۡتُوۤا۟ أُو۟لِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینَ وَٱلۡمُهَـٰجِرِینَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۖ وَلۡیَعۡفُوا۟ وَلۡیَصۡفَحُوۤا۟ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن یَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُور رَّحِیمٌ ) النور: 22.

فمن عفا رجاء ما عند الله، أعطاه الله سبحانه وتعالى فوق ما يأمله في الدنيا والآخرة.

وصح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: ” ما زاد الله عبدا ً بعفو إلا عزا ً ” اخرجه مسلم.

قال النووي رحمه الله: من عُرف بالعفو والصفح ساد وعظم في القلوب، وزاد عزه وإكرامه.

خطب الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان خطبة بليغة، ثم قطعها وبكى بكاء شديدا ً، ثم قال: يا رب ان ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم منها فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي.

فبلغ ذلك الحسن البصري: فبكى وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام.

ودعا أعرابي: اللهم! انك امرتنا أن نعفوا عمن ظلمنا، وقد ظلمنا انفسنا فاعف عنا.

ونحن ندعوك: ( قَالَا رَبَّنَا ظَلَمۡنَاۤ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمۡ تَغۡفِرۡ لَنَا وَتَرۡحَمۡنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ ) الأعراف: 23.

اللهم! انك عفو تحب العفو فاعف عنا يا أرحم الراحمين.

ساهم في التعريف بأسماء الله الحسنى

انت المشاهد رقم